فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لأنه سبحانه شاء أنْ يحميَ الكون؛ لكي يستمتع كُلّ فَرْد بحسنات المُسيء، لأنك لو علمتَ سيئاته قد تبصُق عليه؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يستر المُسيء، ويُظهِر حسناته فقط.
وقد قال لوط لقومه بعد أن نهاهم عن الاقتراب الشائن من ضيوفه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)} أي: ضَعوا بينكم وبين عقاب الحق لكم وقاية؛ ولا تكونوا سببًا في إحساسي بالخِزي والعار أمام ضيوفي بسبب ما تَرغبُون فيه من الفاحشة.
والاتقاء من الوقاية، والوقاية هي الاحتراس والبعد من الشر، لذلك يقول الحق سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا الناس والحجارة} [التحريم: 6].
أي: اجعلوا بينكم وبين النار وقاية، واحترسوا من أن تقعوا فيها، بالابتعاد عن المحظورات، فإن فِعْل المحذور طريق إلى النار، والابتعاد عنه وقاية منها، ومن عجيب أمر هذه التقوى أنك تجد الحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم والقرآن كله كلام الله.
يقول: {واتقوا الله} [البقرة: 194].
ويقول: {واتقوا النار} [آل عمران: 131].
كيف نأخذ سلوكًا واحدًا تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون؟
والمعنى: لا تفعلوا ما يغضب الله حتى لا تُعذَّبوا في النار، فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية بأن تركت المعاصي، وإن فعلتَ المأمورات، ورضيتَ بالمقدورات، وابتعدت عن المحذورات، فقد اتقيت الله.
ولكنهم لم يستجيبوا له، بدليل أنهم تَمادَوْا في غِيِّهم وقالوا ما أورده الحق سبحانه: {قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ}.
أي: أَلَمْ نُحذِّرك من قَبْل من ضيافة الشبان الذين يتمَّيزون بالحُسْن، ولأنك قُمْتَ باستضافة هؤلاء الشبان؛ فلابد لنا من أنْ نفعلَ معهم ما نحب من الفاحشة، وكانوا يتعرَّضون لكل غريب بالسوء.
وحاول لوط أن ينهاهم قَدْر استطاعته؛ ولكنهم رفضوا أنْ يُجِير ضيوفه من عدوانهم الفاحش، وطلبوا منه أن يتركهم وشأنهم، ليفسدوا في الكون كما يشاءون، فلا تتكلم ولا تعترض على شيء مما نفعل، وهذه لغة أهل الضلال والفساد.
وحاول لوط عليه السلام أنْ يُثنيهم عن ذلك بأن قال لهم، ما جاء به الحق سبحانه: {قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي}.
أي: أنكم إنْ كُنتم مُصرِّين على ارتكاب الفاحشة؛ فلماذا لا تتزوجون من بناتي؟ ولقد حاول البعضُ أن يقولوا: إنه عرض بناته عليهم ليرتكبوا معهن الفاحشة؛ وحاشا الله أن يصدر مثل هذا الفعل عن رسول، بل هو قد عرض عليهم أن يتزوجوا النساء.
ثم إن لوطًا كانت له ابنتان اثنتان، وهو قد قال: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي} [الحجر: 71].
أي: أنه تحدث عن جمع كثير؛ ذلك أن ابنتيه لا تصلحان إلا للزواج من اثنين من هذا الجمع الكثيف من رجال تلك المدينة، ونعلم أن بنات كل القوم الذين يوجد فيهم رسول يُعتبرْنَ من بناته.
ولذلك يقول الحق سبحانه ما يُوضّح ذلك في آية أخرى. {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 165-166].
أي: أن لوطًا أراد أنْ يردَّ هؤلاء الشواذ إلى دائرة الصواب، والفعل الطيب، وذيَّل كلامه:
{إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 71].
ليوحي لهم بالشكِّ في أنهم سيُهينون ضيوفه بهذا الأسلوب المَمْجوج والمرفوض.
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)}
والخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعَمْرُك معناها السنُّ المُحدَّد للإنسان لاستقامة الحياة، ومرة تنطق عُمْرك ومرة تنطق عَمْرك، ولكنهم في القَسَم يختارون كلمة عَمْرك، وهذا يماثل قولنا في الحياة اليومية وحياتك.
ومن هذا القول الكريم الذي يُحدِّث به الحق سبحانه رسوله استدلَّ أهل الإشراق والمعرفة أن الحق سبحانه قد كرَّم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بأنه حين ناداه لم يُنَادِهِ باسمه العلنيّ يا محمد أو يا أحمد كما نادى كل رُسُله، ولكنه لم يُنَادِ الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بقوله: {يا أيها الرسول} [المائدة: 67].
أو: {يا أيها النبي} [الممتحنة: 12].
وفي هذا تكريمٌ عظيم، وهنا في هذه الآية نجد تكريمًا آخر، فسبحانه يُقسِم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونعلم أن الحق سبحانه يُقسِم بما شاء على ما شاء، أقسم بالشمس وبمواقع النجوم وبالنجم إذا هَوَى.
فهو الخالق العليم بكل ما خلق؛ ولا يعرف عظمة المخلوق إلا خالقه، وهو العالم بمُهمة كل كائن خلقه، لكنه أمرنا ألاَّ نُقسِم إلاَّ به؛ لأننا نجل حقائق الأشياء مُكْتملةً.
وقد أقسم سبحانه بكل شيء في الوجود، إلا أنه لم يُقسِم أبدًا بأيِّ إنسان إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فقال هنا: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]. بحياتك يا محمد إنهم في سَكْرة يعمهون.
والسكرة هي التخديرة العقلية التي تحدث لمن يختلّ إدراكهم بفعل عقيدة فاسدة، أو عادة شاذة، أو بتناول مادة تثير الاضطراب في الوعي.
و{يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
أي: يضطربون باختيارهم.
ويأتي العقاب؛ فيقول الحق سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة}.
وسبق أنْ أخبرنا سبحانه أنه سيقطع دابرهم وهم مصبحون، وهنا يخبرنا أن الصيحة أخذتهم وهم مُشْرقون، ونحن نرى هذه الأيام بعضًا من الألعاب كلعبة الكاراتيه تصدر صيحة من اللاعب في مواجهة خَصْمه لِيُزيد من رُعبْه.
كما نرى في تدريبات الصاعقة العسكرية؛ نوعًا من الصرخات، هدفها أنْ يُدخِل المقاتل الرُّعْب في قلب عدوه.
وكل ما يتطلب إرهاب الخَصْم يبدأ بصيحة تُفقِده توازنه الفكري؛ ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31].
ومرّة يُسمّيها الحق سبحانه بالطاغية؛ فيقول: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5].
ويقول سبحانه من بعد ذلك: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا}.
وما دام عاليها قد صار أسفلها، فهذا لَوْنٌ من الانتقام المُنظّم المُوجّه؛ ولو لم يكن انتقامًا مُنظّمًا؛ لانقلب بعضُ ما في تلك المدينة على الجانب الأيمن أو الأيسر.
ولكن شاء الحق سبحانه أن يأتي لنا بصورة ما حدث، لِيدلَنا على قدرته على أنْ يفعلَ ما شاء كما يشاء، وأمطرهم الحق سبحانه بحجارة من سجيل؛ كتلك التي أمطر بها مَنْ هاجموا الكعبة في عام ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهي حجارة صُنِعَتْ من طين لا يعلم كُنْهَه إلا الله سبحانه، والطين إذا تحجَّر سُمّي سجيلًا.
والحق سبحانه هو القائل عن نفس هذا الموقف في سورة الذاريات: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات: 33].
وقد أرسل الحق سبحانه تلك الحجارة عليهم لِيُبيدهم، فلا يُبقِي منهم أحدًا.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ}.
وهكذا كان العذاب الذي أنزله الحق سبحانه بقوم لوط آية واضحة للمُتوسِّمين، والمُتوسِّم هو الذي يُدرك حقائق المَسْتور بمكْشُوف المظهور، ويُقال توسَّمْتُ في فلان كذا أي: أخذ من الظاهر حقيقة الباطن.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29].
أي: ساعةَ تراهم ترى أن الملامح تُوَضِّح ما في الأعماق من إيمان.
ويقول سبحانه أيضًا: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
وهكذا نعرف أن المُتوسِّم هو صاحب الفَراسة التي تكشف مكنون الأعماق، وها هو صلى الله عليه وسلم يقول: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله».
وتحمل الذاكرة العربية حكاية الأعرابي الذي فقد جمله، فذهب إلى قيم الناحية أي: عمدة المكان وقال له: ضاع جملي، وأخشى أن يكون قد سرقه أحد، وبينما هو يُحدِّث القيِّم جاء واحد، وقال له: أجملك أعور؟ أجاب صاحب الجمل: نعم، وقال له: أجملك أبتَر؟ أي: لا ذَيْل له، أجاب صاحب الجمل: نعم. فسأل الرجل سؤالا ثالثًا: أجملك أشول؟ أي: يعرج قليلًا عندما يسير؛ فأجاب الرجل: نعم، والله هو جَمَلِي.
وأراد قيِّم الحي أن يعلم كيف عرف الرجل الذي حضر كل هذه العلامات التي في الجمل، فسأله: وما أدراك بكل تلك العلامات؟
قال الرجل: لقد رأيتُه في الطريق، وعرفتُ أنه أعورُ، ذلك أنه كان يأكل العُشبْ الجاف من جهة، ولا يلتفت إلى العُشْب الأخضر في الجهة الأخرى، ولو كان يرى بعينيه الاثنتين لرأى العُشْب الأخضر.
وعرفت أنه أبتر مقطوع الذيل نتيجة أن بَعْره لم يتبعثر مثل غيره من الجمال التي لها ذَيْل غير مقطوع.
وعرفت أنه أشول؛ لأن أثر ساقه اليمنى أكثر عُمْقًا في الأرض من أثر ساقه اليسرى، وهكذا شرحت الذاكرة العربية معنى كلمة المتوسم.
ثم يُبيِّن الحق سبحانه مكان مدينة قوم لوط، فيقول من بعد ذلك: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ}.
أي: أنها على طريق ثابت تمرُّون عليه إنْ ذهبتُم ناحية هذا المكان، وفي آية أخرى يقول سبحانه: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137].
فهذه المدينة إذنْ في طريق ثابت؛ لن تُضيّعه عوامل التَّعْرية أو الأغيار، ولن تضيعه تلك العوامل إلا إذا شاء الحق سبحانه له أن يكون مُحْكَم التكوين ومُحكمَ التثبيت، وهو ما يُسمَّى سدوم.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}
وقد قال من قبل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75].
فكأن من مسئوليات المؤمن أنْ يتفحَّص في أدبار الأشياء، وأنْ يتعرّف على الأشياء بسيماها، وأن يمتلكَ فراسة الإيمان التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسةَ المؤمن، فإنه ينظر بنور الله».
وهكذا يُنهِي الحق سبحانه هنا قصة لوط؛ وما وقع عليهم من عذاب يجب أن يتعظَ به المؤمنون؛ فقد نالوا جزاءَ ما فعلوا من فاحشة.
وينقلنا الحق سبحانه من بعد ذلك نَقْلة أخرى؛ إلى أهل مَدْين، وهم قوم شُعَيب، وهم أصحاب الأيكة، يقول سبحانه: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)}
والأَيْك هو الشجر المُلْتف الكثير الأغصان، ونعلم أن شعيبًا عليه السلام قد بُعِث لأهل مدين وأصحاب الأيكة، وهي مكان قريب من مدين، وكان أهل مدين قد ظلموا أنفسهم بالشرك.
وقد قال الحق سبحانه: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85].
وقال عن أصحاب الأيكة: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} [الشعراء: 176-177].
وهكذا نعلم أن شعيبًا قد بُعِث لأُمتين مُتجاورتين.
ويقول سبحانه عن هاتين الأُمتين: {فانتقمنا مِنْهُمْ}.
ويُقال: إن ما كان يفصل بين مدين وأصحاب الأيكة هو هذا الشجر المُلْتف الكثيف القريب من البحر، ولذلك نجد هنا الدليل على أن شعيبًا عليه السلام قد بُعِث إلى أُمتين هو قوله الحق:
{وَإِنَّهُمَا} [الحجر: 79].
وقد انتقم الله من الأُمتين الظالمتين؛ مَدْين وأصحاب الأيكة.
ويقول الحق سبحانه: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} [الحجر: 79].
والإمام هو ما يُؤتَم به في الرأي والفتيا، أو في الحركات والسَّكنات؛ أو: في الطريق المُوصِّل إلى الغايات، ويُسمَّى إمام لأنه يدلُّ على الأماكن أو الغايات التي نريد أن نصل إليها، ذلك أنه يعلم كل جزئية من هذا الطريق.
وفيما يبدو أن أصحاب الأَيْكة قد تَمادَوْا في الظُّلْم والكفر، وإذا كان سبحانه قد أخذ أهل مَدْين بالصيحة والرجفة؛ فقد أخذ أصحاب الأيكة بأن سلط عليهم الحَرَّ سبعة أيام لا يُظِلهم منه ظِلٌّ؛ ثم أرسل سحابة وتمنَّوْا أن تُمطر، وأمطرتْ نارًا فأكلتهم، كما قالت كتب الأثر.
وهذا هو العذاب الذي قال فيه الحق سبحانه: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189].
وهكذا تكون تلك العِبَر بمثابة الإمام الذي يقود إلى التبصُّر بعواقب الظلم والشرك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 75-77]، فيها سؤالان: جمع آيات في الأولى وإفراد ذلك في الثانية؟ وتخصص الاعتبار أولًا بالمتوسمين وثانيًا بالمؤمنين؟
والجواب: أن المتقدم في ذكر ضيف إبراهيم ووجله، عليه السلام، منهم مع أنه كان لا يهاب كثرة الرجال لما منح من النبوة والأيد، إلى حال النبوة، وتخصيص الخِلة، ثم بشارة الملائكة له بالولد مع بلوغ الكبر، ثم سؤاله إياهم عن إرسالهم إذ ذاك فأخبروه أنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط، وكانت مدينتهم على قرب من حيث كان إبراهيم، عليه السلام، فسألهم-إشفاقًا ورحمة جبل عليهما الرسل والأنبياء- أيهلكون إن كان فيهم مؤمنون؟ وعن ذلك السؤال والمحاورة عبر بالمجادلة في قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] أي يجادل رسلنا، وهي محاورته معهم وسؤاله إياهم حتى عرفوه أن آل لوط، عليه السلام، ناجون إلا امرأته، ثم أعقب ذلك من مجيء الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط، وإنكار لوط أولًا إياهم حتى علم أنهم الملائكة ثم أمرهم أياه بأن يسري بأهله، وأن يُقدمهم أمامه، ولا يلتفت إلى ما وراءه، ولا يعرج على شيء فإن قومه هالكون صبح ليلتهم، ثم الإخبار بمجيء قوم لوط لما سمعوا بأضيافه وظنوا أنهم من البشر، وجاؤوا مسرعين طامعين في غلبة لوط، عليه السلام، وقهره في ضيفه ليأخذوهم لأغراضهم الشنيعة: {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 78]، فذكرهم، عليه السلام، وأمرهم بتقوى الله، عز وجل، فقال: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} [الحجر: 68-69]، ثم عرض عليهم نساء آله وقومه بالوجه المحل لذلك فقال: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي} [الحجر: 71]، ونساء قوم كل نبي بنات له، وهو لهم بمنزلة الأب {فلم} يجد ذلك عليهم شيئًا، وعند تمردهم وطغيانهم قال عليه السلام: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، أي عشيرة {وقبيلة} يحمونني، فقالت الملائكة إذ ذاك: إنهم لن يصلو إليك، أي لا سلطان لهم عليك ولا عون، فروي أن جبريل، عليه السلام، نفخ في أعينهم فخرجوا وقد عموا قائلين لمن وراءهم أن عند لوط سحرة أو كما قالوا، ثم صبحهم العذاب: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر: 73]، قال تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74]، هذه جمل ومقدمات عجائب من الآيات يجول فيها اعتبار المعتبر ويتسع له النظر، ويتوسم منها المتفرس مخائل الهلاك ومقدمات التلف لأولئك الأشرار، فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] أي المعتبرين أو المتفرسين والناظرين، فهذا مناسب لما تقدم. ثم لما تحصل من قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [الحجر: 74] قلب مدينتهم المشاهد أثره مرئيًا مشاهدًا لمن أتى بعدهم قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر: 76] أي طريق واضح ودليل بين لمن شاهده وأبصره، وذلك أمر مدرك ومعتبر متخذ حاصل لنا تفصيل قصصه بخبر الصادق، عليه السلام، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 77]، وقال: {لمؤمنين} أي للمصدقين المشاهدين أثرهم، فجاء كل على ما يجب، ولم يكن ليناسب المتقدم إفراد آية، ولا جعل العبرة للمصدقين مع ذكر المتوسمين في الأخرى ولا المتأخر ما ورد في الأولى، بل ورد كل على ما يجب ويناسب، والله سبحانه أعلم. اهـ.